أولًا: أقوال بعض الصحابة والتابعين في اسم الله (الرحيم) والفرق بينه وبين (الرحمن):
1- قال ابن عباس -رضي الله عنهما- {الرحيم}: الرحمن، وهو الرفيق، الرحيم، وهو العاطف على خلقه بالرزق. وهما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر. وَحكى عَنهُ أَيْضا أَنه قَالَ: " الرَّحْمَن ": الرفيق بالعباد، و " الرَّحِيم " العاطف عَلَيْهِم.
2- وقال مجاهد -رحمه الله-: الرحمن بأهل الدنيا الرحيم بأهل الآخرة.
وفي الدعاء: يا رحمن الدنيا يا رحيم الآخرة.
3- وقال الضحاك -رحمه الله-: الرحمن بأهل السماء حيث أسكنهم السموات وطوقهم الطاعات، وجنبهم الآفات، وقطع عنهم المطامع واللذات، والرحيم بأهل الأرض حيث أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب.
4- وقال عكرمة -رحمه الله-: الرحمن برحمة واحدة، والرحيم بمائة رحمة.
5- وقال ابن المبارك: الرحمن إذا سئل أجاب والرحيم إذا لم يسئل غضب.
6- قال عطاء الخراساني: كان الرحمن، فلما اختزلَ الرحمن من اسمه كان الرحمنَ الرحيمَ.
والذي أراد، إن شاء الله، عطاءٌ بقوله هذا: أن الرحمن كان من أسماء الله التي لا يتسمَّى بها أحد من خَلْقِه، فلما تسمَّى به الكذابُ مسيلمة - وهو اختزاله إياه، يعني اقتطاعه من أسمائه لنفسه - أخبر الله جلّ ثناؤه أن اسمه "الرحمنُ الرحيمُ" ليفصِل بذلك لعباده اسمَهُ من اسم من قد تسمَّى بأسمائه، إذ كان لا يسمَّى أحد "الرحمن الرحيم"، فيجمع له هذان الاسمان، غيره جلّ ذكره. وإنما يتسمَّى بعضُ خَلْقه إما رحيما، أو يتسمَّى رَحمن. فأما "رحمن رحيم"، فلم يجتمعا قطّ لأحد سواهُ، ولا يجمعان لأحد غيره. فكأنّ معنى قول عطاء هذا: أن الله جل ثناؤه إنما فَصَل بتكرير الرحيم على الرحمن، بين اسمه واسم غيره من خلقِه، اختلف معناهما أو اتفقا.
والذي قال عطاءٌ من ذلك غيرُ فاسد المعنى، بل جائز أن يكون جلّ ثناؤه خصّ نفسه بالتسمية بهما معًا مجتمعين، إبانةً لها من خلقه، ليعرف عبادُه بذكرهما مجموعينِ أنه المقصود بذكرهما دون مَنْ سواه من خلقه، مع مَا في تأويل كل واحد منهما من المعنى الذي ليس في الآخر منهما.
7- قال أبو بكر محمد بن عمر الوراق: الرحمن: بالنعماء وهي ما أعطي وحبا، والرحيم بالآلاء وهي ما صرف وزوى.
وقال أبو بكر الوراق أيضا: الرحمن بمن جحده والرحيم بمن وحده، والرحمن بمن كفر والرحيم بمن شكر، والرحمن بمن قال ندا والرحيم بمن قال فردا.
8- قال محمد بن علي المزيدي: الرحمن بالانقاذ من النيران، وبيانه قوله تعالى: وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، والرحيم بإدخالهم الجنان، بيانه: ادخلوها بسلام آمنين.
9- قال المحاسبي: الرحمن: برحمة النفوس، والرحيم برحمة القلوب.
10- قال السري بن مغلس: الرحمن بكشف الكروب، والرحيم بغفران الذنوب.
11- قال عبد الله بن الجراح: الرحمن بالطريق، والرحيم بالعصمة والتوفيق.
12- قال مطهر بن الوراق: الرحمن بغفران السيئات وإن كن عظيمات، والرحيم بقبول الطاعات وإن كن [قليلات].
13- قال يحيى بن معاذ الرازي: الرحمن بمصالح معاشهم، والرحيم بمصالح معادهم.
14- قال الحسين بن الفضل: الرحمن الذي يرحم العبد على كشف الضر ودفع الشر، والرحيم الذي يرق وربما لا يقدر على الكشف.
15- قال مقاتل بن سليمان: الرحمن الرحيم اسمان رقيقان. أحدهما أرق من الآخر. الرحمن يعني المترحم. الرحيم يعني المتعطف بالرحمة على خلقه
يراجع: [الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل، للجيلاني 1/223 – 225، (نزهة المجالس ومنتخب النفائس، للصفوري 1/26 – 27، تفسير القرآن العظيم، لابن أبي حاتم 1/25، تفسير الطبري، 1/130)، (تفسير الثعلبي، 1/100 – 101، تفسير السمعاني، 1/33، الأسماء والصفات للبيهقي 1/89 – 90].
ثانيًا: أقوال بعض المفسرين في تفسير اسم الله (الرحيم) والفرق بينه وبين (الرحمن):
1- قال الطبري: {الرحيم}: "الرحيم" فعيل من رحم، فإن قال قائل: فإذا كان الرحمن والرحيم اسمين مشتقين من الرحمة، فما وجهُ تكرير ذلك، وأحدهما مؤدٍّ عن معنى الآخر؟
قيل له: ليس الأمر في ذلك على ما ظننتَ، بل لكل كلمة منهما معنى لا تؤدي الأخرى منهما عنها.
فإن قال: وما المعنى الذي انفردت به كل واحدة منهما، فصارت إحداهما غير مؤدية المعنى عن الأخرى؟
قيل: أما من جهة العربية، فلا تَمانُع بين أهل المعرفة بلغات العرب، أنّ قول القائل: "الرحمن" - عن أبنية الأسماء من "فَعِل يفعَل" - أشدُّ عدولا من قوله "الرّحيم". وأما من جهة الأثر والخبر، ففيه بين أهل التأويل اختلاف:-
فحدثني السري بن يحيى التميمي، قال: حدثنا عثمان بن زفر، قال: سمعت العَرْزَمي يقول: "الرحمن الرحيم"، قال: الرحمن بجميع الخلق، الرّحيم، قال: بالمؤمنين.
حدثنا إسماعيل بن الفضل، قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي مُليكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود - ومسعر بن كدام، عن عطية العَوفي، عن أبي سعيد - يعني الخدريّ - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ عيسى ابن مريم قال: الرحمن رَحمنُ الآخرة والدنيا، والرحيم رحيمُ الآخرة".
فهذان الخبران قد أنبآ عن فرق ما بين تسمية الله جل ثناؤه باسمه الذي هو "رحمن"، وتسميته باسمه الذي هو "رحيم"، واختلاف معنى الكلمتين - وإن اختلفا في معنى ذلك الفرق، فدلّ أحدهما على أنّ ذلك في الدنيا، ودلّ الآخر على أنه في الآخرة.
فإن قال: فأي هذين التأويلين أولى عندك بالصحة؟
قيل: لجميعهما عندنا في الصحة مخرج، فلا وجه لقول قائل: أيُّهما أولى بالصحة؟ وذلك أنّ المعنى الذي في تسمية الله بالرحمن، دون الذي في تسميته بالرحيم: هو أنه بالتسمية بالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميعَ خلقه، وأنه بالتسمية بالرحيم موصوف بخصوص الرحمة بعضَ خلقه، إما في كل الأحوال، وإما في بعض الأحوال. فلا شك - إذا كان ذلك كذلك - أنّ ذلك الخصوص الذي في وصفه بالرحيم لا يستحيل عن معناه، في الدنيا كان ذلك أو في الآخرة، أو فيهما جميعًا.
فإذا كان صحيحًا ما قلنا من ذلك - وكان الله جل ثناؤه قد خصّ عباده المؤمنين في عاجل الدنيا بما لطف بهم من توفيقه إياهم لطاعته، والإيمان به وبرسله، واتباع أمره واجتناب معاصيه، مما خُذِل عنه من أشرك به، وكفر وخالف ما أمره به، وركب معاصيَه؛ وكان مع ذلك قد جعلَ، جَلَّ ثناؤه، ما أعد في آجل الآخرة في جناته من النعيم المقيم والفوز المبين، لمن آمن به، وصدّق رسله، وعمل بطاعته، خالصًا، دون من أشرك وكفر به - كان بيِّنًا إن الله قد خص المؤمنين من رحمته في الدنيا والآخرة، مع ما قد عمَّهم به والكفارَ في الدنيا من الإفضال والإحسان إلى جميعهم، في البَسْط في الرزق، وتسخير السحاب بالغَيْثِ، وإخراج النبات من الأرض، وصحة الأجسام والعقول، وسائر النعم التي لا تُحصى، التي يشترك فيها المؤمنون والكافرون.
فربُّنا جل ثناؤه رحمنُ جميع خلقه في الدنيا والآخرة، ورحيمُ المؤمنين خاصةً في الدنيا والآخرة. فأما الذي عمّ جميعَهم به في الدنيا من رحمته فكان رَحمانًا لهم به، فما ذكرنا مع نظائره التي لا سبيل إلى إحصائها لأحد من خلقه، كما قال جل ثناؤه: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوهَا) [سورة إبراهيم: 34، وسورة النحل: 18] .
وأما في الآخرة، فالذي عمّ جميعهم به فيها من رحمته، فكان لهم رحمانًا، تسويته بين جميعهم جل ذكرُه في عَدله وقضائه، فلا يظلم أحدًا منهم مِثْقال ذَرّة، وإن تَكُ حسنةً يُضاعفها ويُؤتِ من لَدُنْهُ أجرًا عظيما، وتُوفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ. فذلك معنى عمومه في الآخرة جميعَهم برحمته، الذي كان به رحمانًا في الآخرة.
وأما ما خص به المؤمنين في عاجل الدنيا من رحمته، الذي كان به رحيما لهم فيها، كما قال جل ذكره: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) [سورة الأحزاب: 43] فما وصفنا من اللطف لهم في دينهم، فخصّهم به، دونَ من خذَله من أهل الكفر به.
وأمَّا ما خصّهم به في الآخرة، فكان به رحيما لهم دون الكافرين، فما وصفنا آنفًا مما أعدَّ لهم دون غيرهم من النعيم، والكرامة التي تقصرُ عنها الأمانيّ. [تفسير الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ) 1/126 – 129].
2- قال السمرقندي: {الرحيم}: فالرفيق بالمؤمنين خاصة، يستر عليهم ذنوبهم في الدنيا، ويرحمهم في الآخرة، ويدخلهم الجنة. وقيل أيضا: إنما سمى نفسه رحيما، لأنه لا يكلف عباده جميع ما يطبقون، وكل ملك يكلف عباده جميع ما يطيقون، فليس برحيم.
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ قال:
اسمه شفاء من كل داء، وعون على كل دواء. وأما الرحمن فهو عون لمن آمن به، وهو اسم لم يسم به غيره. وأما «الرحيم» فلمن تاب وآمن وعمل صالحاً. (بحر العلوم، أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي (المتوفى: 373هـ)، 1/14).
3- قال مكي بن أبي طالب: {الرحيم}: العاطف على خلقه بالرزق وغيره.وقدم {الرحمن} على {الرَّحِيمِ} لأن " الرحمن " اسم شريف مبني للمبالغة لا يتسمى به غير الله جل ذكره، والرحيم قد يوصف به الخلق فأخر لذلك.
وقيل: إنما جيء بالرحيم ليعلم الخلق أن {الرحمن الرَّحِيمِ} على اجتماعهما لم يتسم بهما غير الله جل ذكره، لأن الرحمن على انفراده قد تسمى به مسيلمة الكذاب لعنه الله، و {الرَّحِيمِ} على انفراده قد يوصف به المخلوق. فكرر الرحيم بعد الرحمن، وهما صفتان لله أو اسمان، ليعلم الخلق ما انفرد به الله تعالى ذكره من اجتماعهما له، وما ادعى بعضه بعض خلقه.
وهذا القول هو معنى قول عطاء لأنه قال: " لما اختُزِلَ الرحمن من أسمائه - أي تسمى به غيره -، صار لله الرحمن الرحيم ".[الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره، وأحكامه، وجمل من فنون علومه، أبو محمد مكي بن أبي طالب حَمّوش بن محمد بن مختار القيسي القيرواني ثم الأندلسي القرطبي المالكي (المتوفى: 437هـ)، 1/97 - 98].
4- قال الماوردي: {الرحيم}: الرحيم فيها اسم مشتق من صفته.
قال: ولذلك جمع بين الرحمن والرحيم , ليزول الالتباس , فعلى هذا يكون الأصل فيه تقديم الرحيم على الرحمن لعربيته , لكن قدَّم الرحمن لمبالغته.
والرحمن أشدُّ مبالغةً من الرحيم , لأن الرحمن يتعدى لفظه ومعناه , والرحيم لا يتعدى لفظه , وإنما يتعدى معناه , ولذلك سمي قوم بالرحيم , ولم يتَسَمَّ أحدٌ بالرحمن , وكانت الجاهليةُ تُسمِّي اللهَ تعالى به وعليه بيت الشنفرى , ثم إن مسيلمة الكذاب تسمَّى بالرحمن , واقتطعه من أسماء الله تعالى , قال عطاء: فلذلك قرنه الله تعالى بالرحيم , لأن أحداً لم يتسمَّ بالرحمن الرحيم ليفصل اسمه عن اسم غيره , فيكون الفرق في المبالغة , وفرَّق أبو عبيدة بينهما , فقال بأن الرحمن ذو الرحمة , والرحيم الراحم. (تفسير الماوردي - النكت والعيون، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)، 1/52 -53).
5- قال البغوي: {الرحيم}: اختلفوا في الرحمن والرحيم، منهم من قال: هما بمعنى واحد مثل ندمان ونديم، ومعناهما ذو الرحمة، وذكر أحدهما بعد الآخر تطميعا لقلوب الراغبين، وقال المبرد: هو إنعام بعد إنعام وتفضل بعد تفضل، ومنهم من فرق بينهما فقال: للرحمن معنى العموم، وللرحيم معنى الخصوص، فالرحمن بمعنى الرزاق في الدنيا، وهو على العموم لكافة الخلق، والرحيم بمعنى العافي في الآخرة والعفو في الآخرة للمؤمنين على الخصوص.
ولذلك قيل في الدعاء: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، فالرحمن من تصل رحمته إلى الخلق على العموم، والرحيم من تصل رحمته إليهم على الخصوص، ولذلك يدعى غير الله رحيما ولا يدعى [غير الله] رحمانا، فالرحمن عام المعنى خاص اللفظ، والرحيم عام اللفظ خاص المعنى، والرحمة إرادة الله الخير لأهله، وقيل: هي ترك عقوبة من يستحقها وإسداء الخير إلى من لا يستحق، فهي على الأول صفة ذات وعلى الثاني صفة فعل. (معالم التنزيل في تفسير القرآن - تفسير البغوي، محيي السنة ، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى : 510هـ)، 1/71 -72).
6- قال فخر الدين الرازي: {الرحيم}: الرحمة عبارة عن التخليص من أنواع الآفات، وعن إيصال الخيرات إلى أصحاب الحاجات. [مفاتيح الغيب - التفسير الكبير، أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606هـ)، 1/24].
7- قال القرطبي: {الرحيم}: واختلفوا هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ فقيل: هما بمعنى واحد، كندمان ونديم. قاله أبو عبيدة وقيل: ليس بناء فعلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل، نحو قولك: رجل غضبان، للممتلئ غضبا. وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول.
ف" الرحمن" خاص الاسم عام الفعل. و" الرحيم" عام الاسم خاص الفعل. هذا قول الجمهور. قال أبو علي الفارسي:" الرحمن" اسم عام في جميع أنواع الرحمة، يختص به الله." والرحيم" إنما هو في جهة المؤمنين، كما قال تعالى" وكان بالمؤمنين رحيما". وقال العرزمي «2»:" الرحمن" بجميع خلقه في الأمصار ونعم الحواس والنعم العامة، و" الرحيم" بالمؤمنين في الهداية لهم، واللطف بهم. وقال ابن المبارك:" الرحمن" إذا سئل أعطى، و" الرحيم" إذا لم يسأل غضب. وروى ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من لم يسأل الله يغضب عليه" لفظ الترمذي. وقال ابن ماجه:" من لم يدع الله سبحانه غضب عليه".. [الجامع لأحكام القرآن - تفسير القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ)، 1/105].
8- قال البيضاوي: {الرحيم}: والرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اسمان بنيا للمبالغة من رحم، كالغضبان من غضب، والعليم من علم، والرحمة في اللغة: رقة القلب، وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان، ومنه الرَّحِم لانعطافها على ما فيها. وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادي التي تكون انفعالات. والرَّحْمنِ أبلغ من الرَّحِيمِ، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى كما في قَطَّعَ وقَطَعَ وكَبَّار وكِبَار، وذلك إنما يؤخذ تارة باعتبار الكمية، وأخرى باعتبار الكيفية، فعلى الأول قيل: يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر، ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن، وعلى الثاني قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، لأن النعم الأخروية كلها جسام، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة. [أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي (المتوفى: 685هـ)، 1/27].
9- قال السمين الحلبي: {الرحيم}: الرحمن والرحيم: صفتان مشتقتان من الرحمة، وقيل: الرحمنُ ليس مشتقاً لأن العربَ لم تَعْرِفْه في قولهم: {وَمَا الرحمن} [الفرقان: 60] وأجاب ابن العربي عنه بأنهم جَهِلوا الصفةَ دونَ الموصوفِ، ولذلك لم يقولوا: وَمَنْ الرحمن؟. [الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، أبو العباس، شهاب الدين، أحمد بن يوسف بن عبد الدائم المعروف بالسمين الحلبي (المتوفى: 756هـ)، 1/30].
10- قال ابن كثير: {الرحيم}: اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، ورحمن أشد مبالغة من رحيم، وفي كلام ابن جرير ما يفهم حكاية الاتفاق على هذا، وفي تفسير بعض السلف ما يدل على ذلك، كما تقدم في الأثر، عن عيسى عليه السلام، أنه قال: والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة.
وقال ابن المبارك: الرحمن إذا سئل أعطى، والرحيم إذا لم يسأل يغضب، وهذا كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي صالح الفارسي الخوزي عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل الله يغضب عليه" [تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ)، 1/124 -125].
11- قال ابن عرفة: {الرحيم}: قلت: لِمَ قدم الوصف بالرّحمان مع أنه أبلغ على الوصف بالرحيم فيلزم أن يكون تأكيدا للأقوى بالأضعف.
(فأجيب) (بوجهين):
- الأول: الرّحمان لما كان خاصا بالله تعالى جرى مجرى (الأسماء) الأعلام التي تلي العوامل فقدم على الرحيم.
- (الثاني): إن الرّحمان دال على جلائل النعم والرّحيم على دقائقها. قاله الزمخشري. [تفسير ابن عرفة، محمد بن محمد ابن عرفة الورغمي التونسي المالكي، أبو عبد الله (المتوفى: 803هـ)، 1/27].
12- قال أبو السعود: {الرحيم}: الرحمن الرحيم صفتان مبنيتان من رَحِمَ بعد جعله لازماً بمنزلة الغرائز بنقله إلى رَحُمَ بالضمِّ كما هُوَ المشهورُ وقد قيل إن الرحيم ليس بصفة مشبَّهة بل هي صيغة مبالغة نص عليه سِيبَويه. [تفسير أبي السعود - إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، أبو السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى (المتوفى: 982هـ)، 1/11]
13- قال الآلوسي: {الرحيم}: والرحمن الرحيم المشهور أنهما صفتان مشبهتان بنيتا لإفادة المبالغة وأنهما من رحم مكسور العين نقل إلى رحم مضمومها بعد جعله لازما وهذا مطرد في باب المدح والذم وأن الرحمة في اللغة رقة القلب ولكونها من الكيفيات التابعة للمزاج المستحيل عليه سبحانه تؤخذ باعتبار غايتها إما على طريقة المجاز المرسل بذكر لفظ السبب وإرادة المسبب وإما على طريقة التمثيل بأن شبه حاله تعالى بالقياس إلى المرحومين في إيصال الخير إليهم بحال الملك إذا رق لهم فأصابهم بمعروفه وإنعامه فاستعمل الكلام الموضوع للهيئة الثانية في الأولى من غير أن يتمحل في شيء من مفرداته وإما على طريقة الاستعارة المصرحة بأن يشبه الإحسان على ما اختاره القاضي أبو بكر أو وإرادته على ما اختاره الأشعري بالرحمة بجامع ترتب الانتفاع على كل ويستعار له الرحمة ويشتق منها الرحمن الرحيم على حد- الحال ناطقة بكذا- وإما على طريقة الاستعارة المكنية التخييلية بأن يشبه معنى الضمير فيهما العائد إليه تعالى بملك رق قلبه على رعيته تشبيها مضمرا في النفس ويحذف المشبه به ويثبت له شيء من لوازمه وهو الرحمة، وقيل الرحمة في ذلك حقيقة شرعية وأن الرحمن أبلغ من الرحيم لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى فتؤخذ تارة باعتبار الكمية وأخرى باعتبار الكيفية فعلى الأول قيل: يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن وعلى الثاني قيل يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا لأن النعم الأخروية كلها جسام وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة وأنه إنما قدم الرحمن والقياس يقتضي الترقي لتقدم رحمة الدنيا ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وذلك لا يصدق على غيره. [تفسير الآلوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني،شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي (المتوفى: 1270هـ)، 1/61 – 62].
ثالثًا: أقوال بعض أهل العقيدة في اسم الله (الرحيم):
1- قال ابن القيم: فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح، لكن المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظ البهائم والدواب، وأدرك منه أولو الألباب أمرًا وراء ذلك. [مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ)، 1/32].
2- قال السفاريني: صفة الرحمة هي صفة قديمة قائمة بذاته تعالى تقتضي التفضل والإنعام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - في شرح العقيدة الأصفهانية: الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. [لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية، شمس الدين، أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي (المتوفى: 1188هـ)، 1/221].
3- قال محمد بن عبد الوهاب: عن أبي هريرة - رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسَلَّم: «لما خلق اللَّه الخلْقَ كتبَ في كتابٍ فهو عندَه فوق العرش: إِن رحمتي غَلبَتْ غضبي» رواه البخاري. ويثبت هذا الحديث العرش، وأنه سبحانه فوق العَرش على السماء، ويثبت صفة الرحمة والغضب لله سبحانه وتعالى. [أصول الإيمان، محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي (المتوفى: 1206هـ)، ص 41].
4- قال ابن عيسى، قال ابن القيم – رحمه الله -: وأما الجمع بين الرحمن والرحيم ففيه معنى بديع وهو أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم وكأن الاول الوصف والثاني الفعل فالاول دال على أن الرحمن صفته أي صفة ذات له سبحانه والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته أي صفة فعل له سبحانه فإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى {وكان بالمؤمنين رحيما} [الاحزاب: 43] {إنه بهم رؤوف رحيم} [التوبة: 117] ولم يجىء قط رحمن بهم فعلمت أن رحمن هو الموصوف بالرحمة ورحيم هو الراحم برحمته. [توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم، أحمد بن إبراهيم بن حمد بن محمد بن حمد بن عبد الله بن عيسى (المتوفى: 1327هـ)، 1/14].
5- قال الهراس: وقد أنكرت الأشاعرة والمعتزلة صفة الرحمة بدعوى أنها في المخلوق ضعف وخور وتألم للمرحوم، وهذا من أقبح الجهل، فإن الرحمة إنما تكون من الأقوياء للضعفاء، فلا تستلزم ضعفا ولا خورا؛ بل قد تكون مع غاية العزة والقدرة، فالإنسان القوي يرحم ولده الصغير وأبويه الكبيرين ومن هو أضعف منه، وأين الضعف والخور ـ وهما من أذم الصفات. [شرح العقيدة الواسطية، ويليه ملحق الواسطية، محمد بن خليل حسن هرّاس (المتوفى: 1395هـ)، 1/106].
6- قال البراك، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: الرحمة رحمتان، رحمة من صفة الذات وهي لا تتعدد، ورحمة من صفة الفعل. [تعليقات الشيخ البراك على المخالفات العقدية في فتح الباري، عبد الرحمن بن ناصر البراك، 10/432].